الاثنين، أغسطس 13، 2018

جماليات الركام و النسيان !


تراثي تراثك قدرا
جماليات الركام و النسيان !




بعيدا عن مزاج وكيفية ايصال الدعوات لأي نشاط موسوم بطابع ثقافي فني مجاني تجري وقائعه في ، مدينتنا الحبيبة العجيبة العاشقة لتاريخها المريضة والمنسية والشاطرة بالبكاء على الأطلال والركام واطلال الركام ولو بعد مليون سنة ! غير انه لا يحلو الكلام عن اي نشاط من الماضي  او الحاضر دون استدعاء الأساطير فيكون المدخل على سبيل المقتطف والحكاية :"في خريف ذلك العام ، هدم التلاميذ أعدادا لا تحصى من الأكواخ والعشوائيات ودكّوها من أساسها .وبقدر ما اسرعوا في العمل ،كان القادمون الجدد أسرع. ففي حين كانوا يقوّضون المباني وينقلون أنقاضها بعيدا، كانت أجزاء أخرى من المدينة تشهد على بناء مواقع جديدة ، غير قانونية وغير آمنة وقبيحة أيضا. وكانت التعليمات التي وضعها " سنان " بخصوص عرض الشوارع وارتفاع المنازل قد أهمل شأنها ، ما أثار هلع "جهان" ( تلميذه ) وفزعه ، لأنه لم يخطر على باله أبدا أن من بين مهام المعماريّ حماية المدينة من سكّانها وحماية الماضي من المستقبل .   اليف شفق – رواية " الفتى المتيّم و المعلّم " .




اما لماذا هذا المدخل فللفتنة والزهو بالمستوى والكثافة وتنوع النشاطات التي تحتفي بالركام وجمالياته حيث اختارت جمعية " تراثي تراثك" ،العاملة على وصل علاقة ثقافية بين طرابلس ومغتربين عنها الى بلاد الفرنسيين وبالتعاون بينهم ومعهم ومع مؤسسات فرنسية وبتمويل منها ، ان تقيم احتفالية على مدى يومين ( نتحدث هنا عن متابعتنا لليوم الثاني ) في النطاق الجنوبي لمحطة القطار الطرابلسية .حيث ان للنطاق الشمالي منها خاتمة معتبرة تنهي المقال !
كل هذا السحر والخلط والهجنة صنعتها مجموعة مكدسة من الأنشطة التي فتحت شهية المشاهدين ،العطشى والمحرومة من ابسط السلالات الناشطة تقافيا ! طبعا والى جانبهم المشاركين والمداومين على التنقل بين وفرة في الأطباق المقترحة تخربط رغبة المذاق . كل هذا في حيز معماري ( مبقور ومشوه من اهمال السنين واختلاس المختلسين و نتائج الحرب ،أو الحروب ،الأهلية المتواصلة ! ) وهي أماكن متعددة الإحالات بتكوينها الأصليّ والعاطفي والاستعمالية التي سبق ومر عليه دهر .
ما يهم ولا بد من اعلانه هو ان الاحتفالية ،المشار اليها، عرفتنا في يومها الثاني الى مواهب هائلة وواعدة ومنها من أصبح مكرسا يحمل تاريخه على كتفيه بقدرة وتمايز ومثابرة وهي ، قد اقول، مع الزعل والعتب الذي سيستتبعه هذا القول ، لم تسمع ولم تقدر حق قدرها !



فأحبائنا ال "جمهور " ولكثير من الإعتبارات : التأخير الأسطوري بالبدء في البرنامج ولانفتاحه ،الجمهور، الذي ظهر وكأنه مخترع للفوضى ،ربما لنقص فاضح لأبسط آداب الاجتماع في نشاطات مماثلة ،بحيث كانت جلسات السمر الجانبية والدردشات على الماشي والتنقل من كرسي الى آخر واستهلاك العصير والساندويش و الخ .. بما اربك الراغب في متابعة الحاصل من فعاليات هنا وهناك أو على المسرح التي احضرت له أعز التقنيات وأكثرها حداثة وهي تصنع ال " بهرجة " باقتدار .
ولكن ؟ ولكي لا نسترسل بالمعاكسة بديهي ان تقدر ويثنى على جهود بزلتها مجموعة " تراثي تراثك " التي تديرها السيدة " جمانة شهال – تدمري " الذين اقاموا للعيد والإحتفالية الحدث كل ما يلزمه بدأ بالأعمال الهندسية الـتأهيلية تحويلا للهنغارات وابتكار ساحة وكل ما يساعد لاستقبال انشطة منوعة بفقراتها ." هيثم دائزلي " بأعماله الفوتوغرافية الحاضرة و المتحف المختصر لحكاية المحطة التي تنتظر موعد عودة القطار وزوايا الرسم ومطرح لتوقيع كتاب وكفيتيريا. كلها وغيرها كانت هناك وحضرت بترتيب ،لمن يرغب، وهي مساحات منشأه بحرفية واحترافية عالية لعلها من توقيع المهندس "وسيم الناغي" وتحمل لمساته ،مع آخرين ربما، بحيث تم اختراع توزيع الحيّز وتحضير الموقع ليوفر متطلبات هذه التعددية للإحتفالية.



بديهي ان نمر على برنامج اليوم الثاني  ، كما علق بالذاكرة ربما ، بحيث يظهر لطف استقبال " بديع ابو شقرا " وتنشيطه لعرض فقرات البرنامج مباشرا بالأزياء التي وقعها المصمم "كريستيان معوض" كما تبعها عرض فيلم الإعلامي "يحي الصديق" الذي يتحدث عن تاريخ السكة بعنوان "المحطة التالية" وبعدها كان عمل مجموعة "صدى" المسرحية التفاعلية التي يديرها " هاني رستم " بدمجه بين لغة العرض المسرحي وشيء من الشغل على الذاكرة والإرتجال المضبوط ببعد يقترب من المسرح التطهيريّ العيادي. لننتقل الى "فريدا شحلاوي" التي قدمت اغنيات بإحساس ومضمون موسيقي وكنص شعري كان من ابرزها اغنية "يا صديقي" التي لعبت فيها بين الموسيقى الشعبية الغربية والراب مطعمة اياها بالصوت الشرقي الفالت معتمدة خلطة تنبئ بموهبة واعدة .



ليأخذنا الطفل "حمزة القزاز" منشدا مغنيا الى مسار "موطني" لحن الأخوين فليفل الأثير ومن كلمات الشاعر ابراهيم طوقان ليذكرنا بفلسطين هو الآتي من مخيمات الشتات محدثا مسيرة النوستالجيا لغناء الوطنيات رافقه خلالها شقيقه. لتأتي مداخلة "زياد الديك" متعددة المفاجآت ،ربما اكثرها تجليا اغنية موعدنا ارضك، الى تدخلات هنا وهناك بما يؤكد على نضوج باعتماد القدرات كما بالتحكم بتحول النغمات والانزلاق بسهولة وسلاسة بين رجعها الشرقي والغربي والتلون فيما بينها ليؤكد ان اللعب هو افضل الطرق لتمثل الغناء سحرا للمستمعين. لنصل الى ما قدمته مغنية الأوبرا المكتملة بثقافتها وعدتها التقنية السوبرانو " منى حلاب " التي لم يعد لنا سوى الإستمتاع بما تقدمه ، تتسلى وتفرح وتطوع ، وهي كانت برفقة الباريتون " فادي جانبارت " الذي ساندها واختصرا حضورا براقا لشكل فخيم وبراق من الغناء الآتي من كثافة .



لعل حضور " فاديا دوماني " مع من تعمل من شباب ،في محترفات و مشاريع موسيقية تثقيفية، يظهر في هذه الأيام بعد زمن طويل من العمل في الظل بحيث تظهر ويظهر عملها ، كمنشطة معلمة وعازفة وقائدة اوركيسترا ومنسقة برنامج ،وكأنه من البديهيات او كأنه تام لا يشوبه الإرتجال وهي برفقة آخرين تجعلهم يظهرون لتختفي ولعل رفقة ابناء الأخ الشابين رمزي و الما دوماني يحضران وكأن الشغل كله يصدر عن ممارسة عائلية للفن باعتباره من متممات التثقيف الفردي.
اذ ختمنا الحديث عن الاحتفالية المميزة ، من الذاكرة والهوى ،يعاود الإحساس بأنه كما ان هذه المدينة تحتفل بذاكرتها كم انها مصابه بالزهايمر الثقافي !، فإن أحدا لا يذكر انه سنة 1988 وفي الجهة الشمالية من ( المحطة) جرت فعاليات مشابهة ! ليس هذا ما نطمح الى التذكير به ولكن لمن يرغب بالمزيد ليسأل السيدة "سهير دندشي – الشريف" عن ذلك ؟ الا ان ما يصدمنا ان كثير من النشاط الثقافي الماثل في الطرقات وعلى الناصيات ( النصب والجداريات مثالا ) هي في غالبها بحالة ، ان لم تكن مزرية فهي في حالة يرثى لها ،تستدعي فعل شيء ما للتنظف والترميم أو الإزالة ان لم تعد قابلة للتدخل ! فهل ما يسكن البال غير المحال ؟ وهكذا نجد الجبرتي، في هذا السياق يقول لنا إنه ما كتب التاريخ إلا لأنه أدرك أهميته، على اعتبار أنه المقياس الحقيقي الذي يقيس به كل عاقل «نفسه على ما مضى من أمثاله في هذه الدار». 

* كما صدر المقال في الدوائر 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق